لم يكن نيل أرمسترونغ أول من صعد إلى سطح القمر، ولكنها الصورة الشعرية!

 المعجزاتُ لا تذوي بالتقادم، وما زال صعود الإنسان سطحَ القمر معجزة تدغدغ أنا البشريةِ جملة، كلما تذكرها فردٌ وذكّر بها.


يتناولُ الجميع في خيالِهم مشهد رائدِ الفضاء على سطح القمر الساكن، وهو يغرس العلم في التربةِ الفضية، يقلب الواحد منا المشهد في ذهنه ويستحضر انطباعاته في ذلك الآن، ويستعيدُ كما يستعيد طعم العلكة الحلوَ حين يكرر مضغها، جوَّ اللحظةِ وانبهارَ المرة الأولى للرؤية، فيبتسم، وهكذا تتوهج المعجزة من جديد ويسيل السكرُ من جهة غيرِ ممضوغةٍ ما تزال، ولهذا السبب تظل قدرة المعجزة على الإبهار حيةً لا نهائية الشعور تنز سكرًا من جهة، كلما استُعيدت ذكراها.
في 1964 كتب الشاعر السوداني الراحل: عبد الرحيم أبو ذكرى. قصيدته: فتاةٌ في المطر. لم ينبه أبو ذكرى على دخول هذه القصيدة بمظلة غير أنني كنت أعلم –بعد قراءتي لديوانِ الرحيل في الليل- كل تحذير كتبه أبو ذكرى بالحبر السري تحتَ عنوانِ كل قصيدة من الديوان، ومع هذا جازفتُ بترك مظلتي خارج الصفحةِ والاستسلام للبلل.
للفيلم الشهير (مرثية حُلم | Requiem for a dream) نوعُ خلودٍ مماثل لما له في معجزةٍ مثل الصعود لسطح القمر، لم يذوِ ولا أظنه، خاصة لمُشاهدٍ يصحب معه قصة الفيلم الثلاثية المتشابكة، واحترافيته الخالدة في تنفيذ التأثيرات البصرية وموسيقاه، فما إن ترن من أي مصدر، حتى تدور العين لمعرفة من أين انبعثت ومن الذي فعل، ولو كان من عازفِ بيانو في الجوار فستجده قد نقر بأصابعه أزرارَ خيالية على إيقاع الموسيقا، يتذكر الجميع البؤبؤ الأزرق المتسع والحقنة في ذراعي غاريد ليتو وجينفر كونلي، وأقراص المخدر الملونة تتساقط في يد إلين بورستين، ويدور الفيلم سريعًا كشريطِ حياة في عقل المشاهد حتى شارة النهاية السوداء وهي تحمل أسماء الممثلين واسم المخرج دارين أرنوفسكي، حتى يتلاشون من الشاشة السوداء لا من عقول الجماهير.
ومهما تتابعتِ التقنيات، عوالمُ الأبعاد المتعددة والواقع الافتراضي، ومهما نَقروا بالبيانو ما نقروا، تظل الأعناق تشرئب لمعرفة من أين انبعثت موسيقا مماثلة، ونظل ننظر لبعضنا بعينِ التوافق والحنين، وعينِ استعادةِ جانب النوستالجيا من المعجزة، إذا ما ذُكر اسم الفيلم أو بُث مرة بعد مرة، فيلم كهذا هو من نوع الأفلام التي لا تبعث الضجر من مشاهدتها حتى وإن بثت في صالةِ انتظار عند طبيب أسنان!
في حملي لمظلتي عند باب الدخول لقصيدة أبي ذكرى احتراسٌ من الدهشة، احتراسٌ ليس لمتذوق يرغب في المتعة، وهذا سبب ثانٍ لتركها بالخارج، وثالثُ الأسباب التي تستفزُّ –استفزازًا ودودًا- قارئا مغامرًا فكرة أن يحملك شاعر بسيط ممتنع مثل أبي ذكرى على التفكير في حمل المظلةِ دخولًا، وأنت الذي تعرف أن المظلة لطالما اصطحبت مهمة الخروج اتقاءً للمفاجأة، فأي مفاجأة ستنتظرك بالداخل الآمن الأليف؟!
لما تجوّلتْ إلى المكانِ
توهجتْ فُجاءَةً منائر النيون
وخارج المقهى توقف المطر
توقف الحديث
تجمد البرادُ في منتصف الطريق للأكواب
وفي السكون فرقعتْ زجاجةٌ على البلاط
فالتفتَ النادلُ ثم انسمرت عيونُه.
صبيةٌ؟ الله لي!
اللهُ يحفظ العيون المزهرة
الله يحفظ الجدائل المنهمرة
هذا الجمالُ والشباب –تبارك الذي خلق-
وانحدرتْ في الليل هذه العيون
تُشَقّقُ السكون في المكان
فاندفع الرواد تحتَ الخصلِ المسترسلة
واضطجعوا على عبير ثوبها المبتل بالمطر
ما هكذا ما هكذا!
تكادُ تجرح العيونُ رمشها المحتار
وشعرُها الذي أتى ليستريح
من بكاء الريح والأمطار
فوجئ أن الريحَ ها هنا وها هنا الأمطار
الريحُ في المقهى تهبُّ من كل اتجاه
يحميكَ رافع السماء يا هذا السنا التياه
الله لك!
هذي العيون عن تحسسِ الدفء تكاد تذهلك
وانسحبتْ إلى المطر
فانهمر السكون
دقيقةً
والآن عاد للمقهى الضجيج والغبار
فمسح النادل حباتٍ من العرق
وعاد يجمع الزجاجة المهشمة
وانتبه البراد من ذهوله
فعاد يسكب الشايات في الأكواب
وخارج المكانِ
انهمر المطر!

أجفف شعري المبتل ولا أجفف البهجة، البهجة من إيجاد وجهٍ جديد للمتعة وللدهشة في هذه القصيدة البلورة، يشف خارجها عن الداخل وفيها نقاءُ الإعجابِ الجميل ببنت حلوة نضرة، تدخل مقهى وتوقف الحركة، وفي تعبيرنا السوداني الجميل نقول: وقّفت الحركة. إذا ما تزيَّت امرأة جميلة زيًا لم تكن له من ملامح واضحة قبل أن تضعه على جسدها، أو أسدلت شعرها أو طلعت على الناس بوجهٍ جديد من حسنها حتى مع اعتيادنا أنها حسناء.
ها هو أبو ذكرى يجعل البنت تستخدم تقنية جميلة حتى ولم ترتد معهد السينما – قسم الإخراج!
من أول الذين دوَّنوا هذا الخيال؟ عن شيء أو شخص يظهر فجأة فيلفت انتباه الجميع حتى يَذهلوا عما في أيديهم ويتركوا له الحواس؟
ليسَ أبو ذكرى من فعل.
وليس الذين صعدوا للقمر أول من راودهم الحلم
وليس لمرثية حلم، براءة اختراع التأثيرات البصرية إياها.
ولكن المعجزة في كيفية التدوين/الخلود.
لا يغادر الشعراء ولا صناع الأفلام أو العلماء متردمَ الأفكار، والخيالُ في دائرة لا نهائية من التكرار، حتى أن الشعر أجمعه عائد لبحوره المعدودة، والموسيقا الضخمة إنما من تصاريف الإيقاعات المعروفة، لكنه التدوين معجزة الخلود، كيف تسكب على الورقة عصير الخيال.
بث أبو ذكرى في قصيدته البريئة براءة خفقةَ القلب الأولى إكسيرًا من الخلود، يجعلني أبتل حتى مع دخولي المتكرر مقهى البنت الجميلة، وحتى مع قراءتي لأدب كثير كان مسرحه مقهى وليلًا ماطر وممثلوه روادا ذاهلين، وحتى مع استخدام الناس لاحقا لمشهد مماثل في العروض المرئية، وحتى مع معرفتي بأن أبا ذكرى استلهم –ربما- هذا المشهد من فيلم ما، جنبًا لجنب مع احتمال تربيته للخيال صعودًا من مشهد حقيقي ذهلت فيه العيون لرؤية بنت جميلة، هل كُسرت زجاجة؟ لا أحد يدري على الحقيقة لكننا لا نستغرب الآن من أن المطر الذي دخلت البنت المقهى لاتقائه قد هطل بالداخل.
مرة بعد مرة ألوك علكة القصيدة السهلة على الظاهر، المنطوية على جانبٍ لم ينز حلاوتَه بعد.

    

تعليقات

المشاركات الشائعة