أمسية ٢٢ فبراير: علام تستند حكاية جيدة؟

 علام تستند حكاية جيدة؟

أمسية ٢٢ فبراير ٢٠٢٤، جدة - مقهى فاصلة بالتعاون مع الشريك الأدبي.


أمسية ٢٢ فبراير بجدة



(في يوم من الأيام خرجت طفلة صغيرة مع والدها باتجاه المدرسة، كان الطقس باردا والشمس لم تُنِر المكان بعد، والفتاة في الصف الرابع الابتدائي تذهب لامتحان رياضيات فصلي استرعى انتباهَها جارُها في البناية المقابلة، كانت تعرفه في عقلها فهي تراه كل يوم من نافذة بيتها.

لم يكن في الأمر جديد ذلك الصباح، خرج الجار ذو اللحية البيضاء باكرا من بنايته، داعب القطة التي يحلو لها أن تريح جسدها فوق سيارته اللكزس السوداء، ولما لم تنزل حملها بهدوء وسط موائها الكسول، واستقل سيارته.

الطفلة قبضت على كتاب الرياضيات كأنها استعادت إحساسها باللحظة، ولكن شيئا ما ومض في عقلها، شيئا أجلته من أجل امتحان الرياضيات، حين عادت، دخلت البيت، أغلقت على نفسها الباب، وهي ترتدي "مريول" المدرسة الأخضر، جلست على السجادة وبدأت في كتابة قصة).

الطفلة التي عرفت بعد امتحان الفصل الدراسي الأول من السنة الرابعة الابتدائية أنها قاصة، هي أنا..

•●•

أ. توطئة:



يذكر في تاريخ فن القصة القصيرة أنه بدأ في القرن الرابع عشر من القرون الوسطى التي بدأت تهب فيها أول رياح الحروب والمجاعات والأوبئة، وهذا لافت ومكرر في آن، فكأن الناس احتاجوا أبدا إلى ازدهار الفنون، وكأنهم احتاجوا إلى السلوى عبر واقع موازٍ هو القصة، وفنون أخرى يذكر أنها تزدهر في أزمان الحروب والأوبئة، المهم أن فن القصة القصيرة بدأ في روما عبر "مصنع الأكاذيب".

هذه الكلمة التي ستسمعونها كثيرا أثناء البحث عن تاريخ القصة، وحكاية مصنع الأكاذيب هذا أنه في إحدى حجرات الفاتيكان كان مجموعة من سكرتارية البابا وأصدقائهم يجتمعون ويختلقون نوادرَ بغرض التسلية حتى جذبت هذه القصص انتباه العامة أنفسهم، كانت أغلبها تدور حول الزواج والفراق وأغلبها كوميدية.

مضت قرون، وبعدها في القرن الثامن عشر جاء موباسان: أبو القصة القصيرة كما يسمونه وهو فرنسي، غير من شكل القصة وأعطاها شكلها الحالي وهو الذي أسس لمنهج كتابةِ قصصٍ عادية عن مواقفَ عادية فيها جماليات ومعانٍ خفية، يعني أن موباسان من مدرسة أن أتناول بالذكر في قصتي حدثا عاديا مثل يوم من يوميات عجوز في الحي، وليس بالضروري أن أبتدع حدثا غريبا مثيرا كي أتفكه به مثل أهل مصنع الأكاذيب، لا أدرينالينَ إذن ولا أحداث مثيرة أو حادة أو طريفة أو حادة أكثر مما يجب. يحفز موباسان المعاني الخفية والجماليات الطفيفة الواقعية، وأنا في رأيي أن هذه اللفتات البسيطة مخلوقة فعلا لعين القاص، للقاص العين التي تلتقط انحناء الزهرة وشعور شخص ما إزاء ذلك، ومواء القطة، وحركة البحر، وخفايا كتلك.

وطبعا هذه القصة التي أسس لها موباسان بهذه اللقطات العابرة هي منهج لقصاصين كثيرين من بعده أمثال تشيخوف الروسي، وهمنغوي الأمريكي، وإدغار ألان بو هذا الكئيب القوطي الفنان، وهو شاعر أيضا -واجتماع القصة مع الشعر فيه حديث جميل- وهو ممن أكدوا عليها.


غير أنو يحلو لي أن أقول، وهذه حقيقة أيضا أن القصة أقوى جذورا وعرى بالثقافة العربية والشرقية، منها في الغرب، صحيح أن الإنسان مجبول على الحكي، وأن الثقافة العربية هي ثقافة شعر بالدرجة الأولى، من أيام حرب البسوس، أبو ليلى المهلهل وطرفة والملك الضليل، ولكن هل يمكن لأي قارئ أن يتجاوز المقامة، هذا الفن العربي الأصيل والمتقدم؟ الحريري صاحب المقامات المشهورة توفي 1122 ميلاديا، موباسان اللي ذكرناه توفي 1893 قبل أيام فقط، ويسمونه أبو القصة القصيرة، الحريري في قبره يتقلب!

ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، قصص شرقية.

أحمد الشدياق، أديب لبناني سبق موباسان وكتب الساق على الساق، وهي رواية باعتبارها..

إضافة الى شيء مهم وهو أن الثقافة العربية ثقافة شفاهية في الغالب، لذلك لم يردنا من أخبار الحكايات سوى النزر اليسير في كتب مثل خزانة الأدب، والمستظرف وغيره، ولكني أعلم أن القصة ولدت بأسنانها في المشرق، في شكل جمالي بالأصل، ولولا غلبة الشعر والثقافة الشفاهية، وكون الشعر إعلام العرب الأول لكان السبق في الذكر للقصة العربية حين يذكر هذا الموضوع.

ويتربع القرآن الكريم في السرد القصصي المكثف، معظم الحكايات عدا قصة سيدنا يوسف هي قصص قصيرة من حيث العناصر، موجزة ومكثفة ومضغوطة، وهي لقطات لو تتبعتموها.. قصة مريم عليها السلام، قصة عبس وتولى أن جاءه الأعمى.. إلى فأنت عنه تلهى قصة قصيرة متقدمة بتقنية المونولوج، الله يخاطب النبي وكأنه صوت ضميره. إلى آخر ذلك.

•●•

ب. الفرق بين الرواية والقصة:




طبعا يواجه القصاصون دائما إشكالين طريفين من الناس وهما: متى ستكتب رواية؟ وقول بعض الناس لهم أن كتابة القصة لا شك أصعب من الرواية.

هؤلاء هم المتفزلكون طبعا، (اللي مسوين صايدين جو القصاصين) ويريدون التعاطف معهم، وأن يقدروهم حق قدرهم مع غلبة الرواية في صنعة الأدب اليوم، والجواب عن السؤال الأول: هو أن كتابة القصة ليست تطورا للشخص من مرحلة إنسان عادي يوحد الله إلى روائي، لا فالموضوع مستقل تماما، كاتب القصة هو قصّاص، حتى أن لها فعل عربي خالص، القص.. لن يتحول القاص أو يتبدل، ربما يكتب إذا ألمَّ بفن الرواية رواية، عندئذ سيكون اسمه قاصٌّ وروائي، لكنها ليست مرحلة، لا يعود بعدها للقص، والحقيقة أن ظن الناس أن القصة فن مرحلي بمعنى أنه يؤهل للرواية هو جهل بطبيعة القصة من حيث الصنعة، وجهل بأن المكان يسع الجميع كما قال الطيب صالح، طبعا القصة لا تقارن بالخاطرة مثلا الفن المهضوم حقه تماما، القصة زاحمت بالكتف وجلست في مكانها المستحق، ولكن القصة والقصاصين ما زالوا يعانون، أنا مثلا أمين عام نادي القصة السوداني ويقول لي بعض الناس طرافة أو ناصحين: متين ستكتبي رواية؟ كأني لن أُقرأ بجدية إلا بعد الرواية وما عدا الرواية هو للهواة.

هذا إشكال يذهب بنا للحديث عن الفرق بين الفنين، وقول بعض الناس أن القصة أصعب من الرواية لأنها ضغط لحكاية ضخمة في زجاجة صغيرة هو قول خطأ جملة وتفصيلا، لأن الفنين مختلفان أصلا، على مستوى أول: فالسرد الروائي الطويل صعب الإمساك بزمامه، وكذلك الضغط والتكثيف ليس سهلا، وعلى مستوى ثانٍ: فصعوبة الكتابة من طبيعتها أصلا، بمعنى أن الكتابة أساسا عمل صعب ودقيق وسهل التداعي،  وزي ما قال الدكتور الناقد والقاص: د.هاشم ميرغني. -وبالمناسبة هو بين المملكة ودولة أخرى، أتمنى منكم استضافته- قال: "الكتابة في ذاتها هي أكثر المهن عزلة إذا استثنينا حارس الفنار". يعني نحن رقم اثنان في العزلة والصعوبة والتركيز بعد حراس الفنار في تصنيف المهن الصعبة في قائمة د.هاشم له التحية..

وهذا طبيعي ومبرر، أما بالعودة لاختلاف الفنين عن بعضهما البعض، فيكفي أن نتحدث عن القصة بتفصيل جيد ليبين الفرق.


ج. علام تستند حكاية؟! 






سواء في قصة كلاسيكية كتبها معاوية محمد نور مثلا، أو إحدى قصص هذا الوقت، فالمشترك أن القصة:


١. تتسم بسمة الإيقاع القصير: النفس الحار والمتلاحق، ومن الطريف أنني قلت مرة لقاصة كانت تستشيرني في كتابتها، أن القصة تكون جيدة إذا كثرت فواصلها، ورغم أن هذا قول غير دقيق إلا أنه يصح غالبا، والمقصود به الإيقاع المتسارع.


لنقرأ مثالا:


هذه جملة البداية من أول قصة قصيرة:

"يتقاطعان في السكك، أو يسيران على التوازي، أو، تجمعهما نفس السكة، لا يتوقفان، لكنهما يشعران بغتة بالشوقِ وألم الذكرى التي مضت".


هذا مثال على بداية قصة قصيرة بمشهد لشخصين لا نعرف من هما، ولولا أنه قيل أنهما يشعران لانطبق القول على الإنسان وما عداه، هذان الشخصان إذن يتقاطعان، يتوازيان، يجمعهما طريق واحد، لكن العبرة أنهما لا يتوقفان ولو شعرا بشوق ما.

هذا المقتطف يتميز بأنه قصير، مختصر، متلاحق، ولا يوفر تفاصيلَ لأن الكلمة محسوبة في القصة القصيرة، سيجري توضيح من هي الشخوص ولماذا لا يتوقفون ووو إلخ فيما بعد، الغرض أن توفر هذه البادئة التشويق.


لو أردت أن أجعل من هذا المقتطف بادئة لرواية فسأقول:


"شاب في مقتبل العمر، (لاحظوا هنا أعطيت تفصيلة، لا يوجد عداد للكلمات عندي ولا للتفاصيل، أستطيع أن أقول أنه شاب وأحافظ مع ذلك على التشويق) يعود لذات المكان كل يوم كأنه طلل لعربي قديم يسكب عنده شوقه وحسراته، (لاحظوا طول الجملة وراحة الإيقاع وعندي زمن أيضا لإضافة تشبيه بلاغي، وما زالت لغتي شعرية) يسير في ذات الطريق إليه، تشاركه السير امرأة عجوز، هي الأخرى تعود لهذا المكان كل يوم، تلحظه ويلحظها، تتقاطع معه مرة في الطريق وهما قادمان، ومرة وهما راجعان، وقد يسيران متوازيين وقد يجمعهما مسار واحد، لكنهما لم يتحدثا أبدا، شيء ما يمنعهما كلما هما بالحديث، وكل منهما يشعر بحرارة في صدره من شوقٍ ما عالق في الهواء، يشتعل في قلبيهما فجأة، لكل منهما ذكرى أليمة لا يعرفها الآخر، وأسئلة لم يعرف إجاباتها".


إذن حولت هذه البادئة إلى مفتتح رواية عبر الإيقاع، وكشف شيء من التفاصيل مع محافظتي على التشويق.


هناك جملة حلوة تلخص موضوع الإيقاع هذا قالها القاص اليمني وجدي الأهدل: "القصة القصيرة تشبه الأرنب، وتشبه الرواية السلحفاة وهما في سباق ليس واحدهما مع الآخر".


إذن تستند الحكاية الجيدة على إلمامنا بمعنى الإيقاع.



٢.الأسئلة الستة:


ما، متى، وأين، وكيف، ولماذا، ومن؟

هذه خمسة وأحيانا ستة أسئلة يدرسها طلاب الإعلام على أنها معايير  يجب أن تستوفيها القصة الإخبارية وتجيب عنها، ويمكننا استعارة هذه الأسئلة لنطبقها على القصة القصيرة، قصتنا يجب أن تجيب عن هذه الأسئلة، ليس شرطا أن تجيب عنها كلها، أحيانا من الممكن أن نخفي سؤالا أو سؤالين يكونان عادة الزمان والمكان، أحيانا لا تحتاج القصة القصيرة تفصيلة الزمان بمعناه العام، أي السنوات والفترة من التاريخ، وكذلك المكان بمعناه الجغرافي، قد تتخلى عنه لصالح الوقت بمعنى الظهيرة، الليل...إلخ ولصالح المكان بمعناه الضيق المسرحي، تلة أو سهل، بيت أو مطعم أو...إلخ.


نتناول إحدى القصص التي أحبها للغاية، للقاص السعودي البديع: عَدِي الحربش، وهي حكاية الصبي الذي رأى النوم من كتابه الموسوم بنفس الاسم.

حدثت الحكاية في بغداد حاضرة الخلافة آنذاك، في بيمارستان (مشفى العزل) في ضفاف دجلة الشرقية، بين ابن سينا وامرأة مريضة بالسل لا يرافقها سوى ابنها وهو صبي في عمر الثامنة.

ها قد أجبنا على أين؟ إجابة دقيقة

ومتى، إجابة ملتوية، أي حين كانت بغداد حاضرة الخلافة يمكننا البحث عن ذلك على غوغل.

ومن، وهم شخوص القصة الثلاثة.

والحدث، جوابا على: ما هو؟

هو أن المرأة حين كان ابن سينا يمر عليها مروره الاعتيادي أجابته بأنها بخير، لكنها شكت إليه ابنها الذي لا ينام، وسبب عدم نومه هو أنه يعتقد أنه إذا غالب النعاس فسيتمكن من رؤية النوم، أنسن له خياله الخصب النوم، وجعله يظن أنه إذا ضبط أعصابه فسيتمكن من رؤية هذا الجسد/النوم، الذي إذا اقترب من الإنسان شعر بالنعاس، أما لحظة سقوطه في فخه فهي لحظة يلمس فيها النوم جبهة الشخص المراد، ولهذا كان الصبي يحاول يوميا رؤية النوم فضولا وخيالا جامحا.

ذكرني أغنية فيروز حبيبي بدو القمر، فيها خيالٌ لذيذ مشابه.

المهم أن الحكاية تنقطع هنا، بحدث جوهري آخر، وهو وفاة والدة الصبي، يُترك الصبي وحيدا بعد والدته، فهو مرافقها الوحيد، لا يدري ما يفعل الله به، هنا قرر ابن سينا أن يسلي هذا الفتى ويفاجئه ويحقق له أمنيته برؤية النوم، فتنكر في زي أسود بالكامل، وأقنع الصبي أنه النوم، وصحبه في رحلة ليريه كيف ينيم العباد، ونقد شحاذين أجرةَ تمثيلية صغيرة يمثلون فيها أنه النوم يلمس جباههم فيرسلهم إلى عالم الأحلام.


قصة بديعة، وهكذا أجبنا على ما هو الحدث، وكيف تم (وجوابهما السرد أي أن السرد هو ما أخبرنا عن الحدث، والخيال: طريقة معالجة الحدث كانت خيالية) ولماذا؟ كان غرض الكاتب عدي الحربش من هذه القصة، بث الروح في شخصيات قديمة من تراثنا العربي في محاولة بديعة لصنع أمثولات أو أساطير عربية خالصة، وهذا مما يعجبني في قصصه وخطه القصصي.


في القصة التي شرحت بها عنصر سرعة الإيقاع قصة الشخصين اللذين يلتقيان ويتوازيان ووو: كانت القصة مبنية على قصة سابقة لغسان كنفاني والشهيرة بمقطعها: "أتعلمين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن ألا يحدث هذا كله".

لنعد إليها كي نتحدث عن السرد، وهو العنصر الثالث في عناصرنا بعد الإيقاع، والأسئلة الستة.


٣. السرد: السرد هو طاقة الحكي، وهو الطريقة، والطريق هو الطريقة كما قال درويش، أي أن تمرحلنا مرة بعد مرة، كتابة بعد كتابة، يصنع طريقتنا.

لماذا ننجذب لطريقة شخص في حكي حكاية دون الآخر؟ طريقته تعجبنا، سرده يلمس فينا شيئا نحب سماعه، الأمر سيان سواء كانت الحكاية مسموعة أو مقروءة، في قصة مثل قصة الشخصين الضائعين عن بعضهما، كانت الفكرة مكررة، ومبنية على قصة قصيرة أخرى سبقتها وهذه مخاطرة، أن تكرر قصة أخرى بل وتذكر هذا في قصتك الجديدة، القصة تحكي قصة أم فقدت في حرب ما، ابنها الرضيع، لكن كان لديها شعور كامن أنه حي، فقدته بطريقة تراجيدية وهي أنها حملت في غمرة القصف وسادة بدلا منه، ثم انتبهت بعد مدة وعادت تبحث عنه ولم تجده، مرت السنوات وهي لا تزال تعود لمكان القصف بسبب شعورها الكامن الذي لا يدعمه شيء سوى حدسها بأنها ستجد إجابة عن مصير الولد، اتضح أن أحد جنرالات العدو أخذ هذا الطفل له لأنه محروم من الخلف لسبب ما، المهم أن هذا الطفل تربى مع الأعداء/الجانب الآخر، عرف عبر زوجة الجنرال أنه ابن الأعداء، وهم الناس اللي قصفهم والده بالتبني فاضطربت هويته هل هو عدو الآن أم حليف، وراح يزور المكان الذي قالت له أمه بالتبني أنهم وجدوه فيه، وأمه الحقيقية أيضا ظلت تزور المكان تتبع إحساسها أن الفتى لا بد ويعود.

في حكاية كهذه، حكاية تستلهم حكايتين إحداهما قصة موسى عليه السلام، الطفل الذي يتربى مع الطاغية، وحكاية صفية لغسان كنفاني التي اضطرت لترك ابنها في الجانب الآخر؛ لطرد الملالة عن قصص معروفة، ولضرورة الدراما القصصية في قصة من هذا النوع كان يجب اللعب بعنصر السرد، واللعب بعنصر اللغة.

واللغة هي عنصرنا الرابع هنا، لمن يعد معي.


بدأت القصة هذه البداية التي قرأناها، لم تعطنا أي وصف عن الشخصيات، فقط إنسانان، هنالك تكثيف شديد للتثنية، يتقاطعان، يسيران، تجمعهما، يتوقفان، يشعران، هكذا التكثيف لهذه الأفعال يقصد أن تحس كأن العالم خلو إلا من هذين الاثنين، وهو يعمل مع التشويق (بحجب أي تفصيلة عن من الشخصين في القصة) يعملان على جعل القارئ ينتقل إلى السطور التالية.


إذن قلنا:


"يتقاطعان في السكك، أو يسيران على التوازي، أو، تجمعهما نفس السكة، لا يتوقفان، لكنهما يشعران بغتة بالشوقِ وألم الذكرى التي مضت".

بعد هذا المدخل، ما الذي حصل؟

يبدأ مشهد حركة، بداية قوية متصلة لا تعطيك وقتها للتمهل:


"الحرب المندلعة أشبه ببركان أو يوم قيامة، حيث لا أحد يقف لأحد، وامرأةٌ وحيدة تبحث عن طفل في الركام تأمل أنها ستجده كما وجدت دُماه وألعابه! امرأة فعلت كما فعلت صفية* (بطلة غسان كنفاني) أضاعت طفلها! أضاعت الحرب لها طفلها، في الحرب حين تظن الأمهات من الروع أن الوسادات هي أطفالهن غير مدركاتٍ في لحظة الاندلاع خفة الوسائد وصراخ الطفل الذي تركنه خلفهن".

الآن يمكنك أن تلتقط أنفاسك قليلا..

والآن بدأت القصة تشرح الحدث، طبعا أنتم سبق وعلمتم أن هناك امرأة فقدت طفلها، المشهد الأول من القصة كان في الحاضر بعدما كبر الولد وشاخت الأم، المشهد الثاني فلاش باك، ارتداد للماضي، زمن بدء الحكاية، لشخص خالي الذهن من القصة، سوف يستمر بالقراءة لمعرفة ما الذي أتى بالحرب هنا، وما شأن هذه المرأة، فيستمر حتى يكتشف أن هذه المرأة هي التي كانت في المشهد الأول..

هكذا تعمل القصة.


السرد، التقنيات، هذه الطريقة الفنية في الحكي هي الجوهر.

إذا كنت تتناول بقصتك حدثا مهما، أجله حتى النهاية، واجعل القارئ يشارك معك في الوصول إليه، حفز خياله.

الآن لو كنتَ قد فهمت من المدخل الأول أن الشخصين هما امرأة وابنها ربما تتردد في إكمال القراءة، لكن هذه النقلة المفاجئة للحرب وللمشهد المتحرك عن امرأة حملت وسط الألغام وسادة بدلا عن ابنها، صرفك قليلا، وشغلك، واندمجت فيه، بعد فواصل كثيرة ستبدأ بالبحث عن الشخصين الذين بدأتُ بهما الحكاية وهكذا جعلتُك تقرأ أسطرا أكثر.

انتقالا إلى اللغة، فهذا عنصر فيه حديث طويل ذو شجون.

أنا عندي وصفة أستخدمها دائما، أكيف اللغة حسب القصة، وليس العكس.

كيف؟

في قصة زي القصة السابقة هي قصة مكرورة ولا جديد فيها، فهذه حرب جديدة، وامرأة جديدة أضاعت طفلها كأم موسى وكصفية ونساء في المنتصف كثيرات، أو تركنه أو اضطررن للتخلي عنه، ما الذي سيميز قصتنا؟ السرد، واللغة.

اللغة لعبة في يدي من يشاء كما قال مريد البرغوثي.

في قصة كتلك، مع دراما كدراما الحرب، اختر لغة شعرية عذبة الألفاظ تثير المشاعر، وتحمل القارئ حملا دون جهد منه، على القارئ فقط مهمة أن يستجيب شعوريا، الآن لو قلت:


اندلعت الحرب، بدت كبركان أو كيوم قيامة، وهناك امرأة وحيدة في الركام وبين الجثث تبحث عن طفلها الذي فقدته، حملت بدلا منه وسادتها بالخطأ ثم عادت بعدما انتبهت لخطئها الفادح تفتش عنه، مثل صفية. هذه المرأة، أضاعت الطفل غير مدركة...إلخ.

فرق كبير بين ذلك:

"الحرب المندلعة أشبه ببركان أو يوم قيامة، حيث لا أحد يقف لأحد، وامرأةٌ وحيدة تبحث عن طفل في الركام تأمل أنها ستجده كما وجدت دُماه وألعابه! امرأة فعلت كما فعلت صفية أضاعت طفلها! أضاعت الحرب لها طفلها، في الحرب حين تظن الأمهات من الروع أن الوسادات هي أطفالهن غير مدركاتٍ في لحظة الاندلاع خفة الوسائد وصراخ الطفل الذي تركنه خلفهن".

لفظة مثل الروع، تختلف عن الخوف، عن المفاجأة، الاندلاع يختلف عن الاشتعال، جرْس اللغم وتأثيره النفسي أعمق من القنبلة.


وصفتي الشخصية التي أستخدمها هي أنني حين أضع وزنا على الفكرة، عندي مثلا قصة عن شحاذة في شارع الستين في الخرطوم، هذه الشحاذة اكتشفت مخبئا فيه مئات العملات الورقية من فئة ٥٠٠ جنيه، أخدتها وبعد أن بددتها في محلات الخرطوم، اكتشفت الحكومة أن هذه الجنيهلت مزورة، الآن من سيحاسب؟ صاحب المخبأ؟ هي؟ والمثير أنها شحاذة لا مأوى لها أين ستفر؟ 

أعتقد في نص كهذا النص يكفي أن تحمل الفكرة القارئ، وجود لغة ثقيلة مليئة بالبلاغة سيثقل القصة ثقلا منفرا.

وهذا ميزاني الشخصي.


عندي عنصر خامس وهو: المعرفة!

أنا عندي مادة كاملة ربما أنسقها وأشاركها مع من يحب، عن: ما هي المعرفة الضرورية للكاتب؟ بعنوان: كيف يمكن لحيتان البحر أن تعيش في قصيدة؟

هنالك بهذا الصدد خبران أحدهما جيد والآخر: يعني.

اللي يعني: هو أن الكاتب يحتاج أن يعرف في علوم كثيرة بل وحتى ونادرة، الأمر الذي سيجعلنا نظن بمشقة هذه المهمة، لكن الخبر الجيد هو أن المعرفة أصلا تراكمية، بمعنى الآن.. لو سألت الباريستا هنا عن طريقة قهوة ما أعجبتني، فهذه معرفة قد تضيف لي وأحتاجها بعد ١٠ سنين في قصة أكتبها فأستدعيها ببساطة، وأيضا: أن المعرفة لا تنتهي، القراءة لا تنتهي، المسألة ليست أن تقرأ كما معين والآن أنت مستعد لتكتب.

المسألة أن تكون القراءة أسلوب حياة، اقرأ هنا وهناك.. ويوميا وقدر الإمكان.


لكن إذا أعطيت مواضيع سريعة للقراءة فيها لتعضيد قصصك بالمعرفة فستكون: 


١. علم النفس. اقرأ عن المشاعر الانسانية، والدوافع لبناء شخصيات جيدة.

٢. اقرأ في نفس مجالك الذي تكتب فيه ليكون يعني اذا كنت قاصا اقرأ أصوات مختلفة قديمة أو معاصرة في القصة.

٣. اقرأ الشعر وشروح الشعر، لأن الشعر، خصوصا الشهر العربي يكسبك الألفاظ وبعض المرادفات المكثفة مما لا تجد في النثر، إذا أخذنا مثالا فكلمة الحب ترد كثيرا في النثر وقليلا في الشعر، لكن كلمة المقة، ترد في الشعر، أنا سمعتها عند هند بنت عتبة في مقطعتها التي قالتها قبيل غزوة أحد، وعند المتنبي في واحر قلباه: هذا عتابك إلا أنه مقة، قد ضمن الدر إلا أنه كلم.

انظر لجمال المفردة.

٤. اقرأ في التاريخ وحكايات الشعوب، لكل شعب قصة كبيرة يعرف بها، السودانيون تدور قصصهم حول لا استقرار بلادهم، حول نيلهم، حول هوياتهم المتعددة، المصريون حول إرثهم الفرعوني الضخم، السعوديون قصتهم في تحويل هذه الصحراء لحداثة باهرة ومختلفة، وهي قصة أهل الخليج كلهم، طبعا إلى جانب خصوصية المناطق في كل حكاية، الغربية والبحر وتعدد الهوية، الشرقية والبحر لكن من جهة الصيد.. إلخ..

كذلك الدول الإسكندنافية وتاريخهم المليء بالحروب والفقر جعلهم من أكثر الشعوب مسالمة وتقبلا للآخر، أفريقيا وقوة القبيلة وتعددها والتآلف مع الطبيعية، الشعب الياباني بهذه الحضارة اللافتة التي تعتمد على الترتيب واستخدام اليدين في البناء، وكل هذا الأشياء المعمولة يدويا، أنا أسميها بلاد التفاصيل الصغيرة.

لكل شعب فرادته وحكايته التي ينبغي أن تُسمع وتعرف.


أخيرا:


د. الصوت الخاص، الخيال، ومتعة التجريب:




من البديهي أن الكاتب أول ما يبدأ بالكتابة يحاول التقليد من هنا وهناك، وليس في هذا حرج، لكن مع مرور الوقت يجب أن يكون لك صوتٌ خاصٌ تُعرَف به، الصوت الخاص لا يجيء إلا بعد دربة طويلة المدى، وكثيرِ تخبط، تعامل مع الكتلبة مثل الرياضة، العضلة لا تتضخم بين ليلة وضحى بل تحتاج إلى الكثير من العمل، وكون الكتابة بحاجة إلى تمرين فهذا لا ينفي أنها موهبة وإلهام، وهذا أيضا لا ينفي أن للمجتهد نصيب، إذا تعلم المرء شيئا ما بإصرار واستمرار، فقد يتساوي في درجة إتقانه مع الموهوب، والموهوب هو الآخر قد يهمل ما في يديه حتى يتضعضع ما عنده ولا يعود له وجود.

جرب، إذا قرأت قصة فجرب أن تكتب مثلها، ضعها في ملفك الخاص بالتمارين، سثريك التجربة وتجعلك تعرف أنك قادر على الألوان جميعها، مع الوقت سيكون لك صوتك وكلماتك وطريقتك، لوحات فان غوخ وسلفادور دالي لا تحتاج توقيعا منهم لتُعرف أنها لهم، هذا ما نقصده بالصوت الخاص، لكنهم أيضا رسموا ألوان مختلفة مثلا: الطبيعة الصامتة والبورتريه وغيره.


أما عن الخيال فهناك تعريفان جميلان للغاية أحبهما وهما: الخيال: السماح للعقول باللعب. (تعريف من كتاب الجسد لا ينسى)، وتعريف لمارك هانسون وهو كاتب بتاع تنمية بشرية لكن نأخد منو جملتو الرائعة: (الخيال هو أحد أعظم الأصول التي تمتلكها).

اسمحوا للخيال بأن يظهر على الأفكار، ولا بأس بخلطه مع الواقع، الخيال هو ما أبدع قصة مثل حكاية الصبي الذي رأى النوم، لعدي الحربش، وهو ما أبدع حكاية بشرى الفاضل الفتاة التي طارت عصافيرها، وقصة ستموت في العشرين لحمور زيادة، وهو ما سيبدع قصصا جديدة، جي كي رولينج مثلا، من الممكن تخيل هذا المكان كيف سيكون في بعد زماني أو مكاني آخر.

وكتدريب صغير للراغبين به، جربوا كتابة قصة تنطلق من هذا المقهى، وأرسلوها لي لتدارسها على الإيميل المرفق ع الشاشة، لنرى كيف ستحولون هذا المكان إلى مسرح للخيال.


قبل أن أختم أود الإشارة إلى أن القصة التي جربنا عليها العناصر هي من كتابي القصصي: القرية التي اشتعلت من بقعة في السرير. يمكنكم مراسلتي لطلب الكتاب حتى يصل إلى السعودية على خير وسلام.

واسمحوا لي في آخر الأمسية اللطيفة البارعة هذه أن أشكر حضوركم الكريم جميعا، كما أشكر بالتأكيد فاصلة، وأتمنى أن يتجدد لقاؤنا مرات ومرات..



أختم أخيرا بالإهداء الذي كتبته في كتابي، وأحب أن أقوله للعالم،


إلى العالم مغمورا في حروبه وجشعه، وينسى أن يقرأ قصة.






تعليقات

المشاركات الشائعة