الضائعان

قصة قصيرة 


____#يتقاطعان في السكك، أو يسيران على التوازي، أو، تجمعهما نفس السكة، لا يتوقفان، لكنهما يشعران بغتة بالشوقِ وألم الذكرى التي مضت.

**
الحرب المندلعة أشبه ببركانٍ أو يوم قيامة، حيث لا أحد يقف لأحد، وامرأةٌ وحيدة تبحث عن طفل في الركام تأمل أنها ستجده كما وجدت دُماه وألعابه! امرأة فعلت كما فعلت صفية* أضاعت طفلها! أضاعت الحرب لها طفلها، في الحرب حين تظن الأمهات من الروع أن الوسادات هي أطفالهن غير مدركاتٍ في لحظة الاندلاع خفة الوسائد وصراخ الطفل الذي تركنه خلفهن.
المرأة تبحث، تدوس شيئًا فينفجر، تتحاشى النظر تحتها لتعلم إذا ما كانت قدمها موجودة أو لا، تنهض بعد الانفجار لتعاود البحث، لا تعلم كيف هو مربوط قلبها أو كيف حافظت على الاتزان كما تحافظ نساء وطنها على حجابهن رغم كل حرب!
كما لو أنهن يتوقعنها.
تتذكر، كانت ترضعه بينما انفجرت الأشياء تلو الأخرى، هذا يفسر لماذا طلبوا منهم أن يخلوا قراهم، ثم أعادوهم إليها، في غمرة الفرحة بالأشياء التي وجدوها كما هي انشغلوا عن السؤال، لماذا فعلوا ما فعلوه.
صباحًا جاء الجنود، لم يتحدثوا مع أي مواطن، حتى شيخ القرية العنيد لم يعترضوا طريقه ليتوصلوا معه إلى حل أو هدنة، يريدون القرى وقد أخذوها، هي للتو علمت كل ما حدث، كانوا قد زرعوا الألغام بين الناس وبيوتهم، بل أدهى من ذلك، زرعوا الألغام بين الناس وفُرشهم ومتكآتهم، في مضافة القرية وفي الجامع، أماكن الأمن! في ألعاب أطفالهم، زرعوا الألغام في هدأة بالهم وفي كفاف عيشهم، بين المزارع وزيتونه وبين الطيور وأعشاشها، لذلك لم يعد الحوار يشغلهم، كانوا قد قرروا أن يدمروا حيوات الناس وقصصهم بضغطة زر واحدة في يوم غائم جميل.
سقطَت فجأة حين استنتجت كل هذا، فقدت وعيها من نذالة الفكرة ومن استحالة إيجاد الولد!
ثم حين نهضت كان قد غربت شمس اليوم، لم يبق لها سوى الذكرى وألعاب الولد، والركام المحترق.
**
يتقاطعان في السكك.
**
خلل هويته هذا يعيده كلما حانت فرصة نحو القرية، القرية المدمرة التي لا يزورها أحد إلا هو، وحده، كلما أوجعه قلبه وأوجعته دِماه في شرايينه، كلما أوجعه عيشه في الجهة المقابلة من أحزان الناس، الناس كانوا القصص البهية في اليوم الغائم، هو كان اللغم المندس طوال أيام يسمع حكاياتهم وأحاديثهم حتى فجرها، يعود رغم أنه حين علم كل هذا كان الأوان قد فات وكانت أمه قد ضاعت عنه وانتهى الأمر.
لا يتذكر أنها كانت ترضعه بينما انفجرت الأشياء تلو الأخرى، لا يتذكر الألغام ولا القرية، ولا طعم الحليب، ولا اليدين اللتين وجدته ملقى بين ألعابه الصغيرة وانتشلته منها، ولا بكاءه فور أن حملوه، يدان خشنتان أخذتاه، يدا جنرال يدكُّ القرى بالأرض وهو على الرغم من هذا يذوب في حلاوة الولد الذي لم تشوهه الحرب إطلاقًا لأنه محصن بعطر أمه، الجنرال لا يعرف شيئًا عن عطرها، يرى الطفل فيوجعه حرمانه من الأولاد، يأخذه فيصرخ الولد، يهرول به نحو الدبابة، يعود به إلى زوجته، يربيه يربيه، يروي له منذ تعلم السماع إلى حكايا الجنرال عن الأعداء، عن القرى التي تدك بالأرض قبل أن تُبنى من جديد، عن عناد الأعداء وصبرهم، وحبهم لأرضهم، يموت الجنرال بعد عمر طويل، لأن الأشرار يعمّرون في أي حكاية، والأخيار يرحلون قبل تمام الحكاية.
زوجة الجنرال تخبر الولد، عقب كل هذه السنوات وعقب ذهاب الجنرال، عقب أكثر من عشرين عامٍ من عمره وعمر أمه التي تنتظره كما انتظرت صفية عودة ابنها أنه ابن صفيةٍ ما كانت هناك في القرية، حصنته بعطرها وأقلقت نوم الجنرال طوال هذه السنوات، أخبرته أن أمه كانت تتراءى للجنرال في الرؤى امرأةً قوية لكنها مكلومة، تتوعده وتهدده وتبكي وتعلق عذاباتها في رقبته، فيصرخ الجنرال، زوجة الجنرال لا تذكر القرية لأن عدد القرى كبير، عدد كبير جدًا على أن تحصيه! ذهب يفتش عن القرية، وعن أمه التي بانتظاره، في غربة موسى إياها التي وجد نفسه فيها، في القصر الفاخر، وفي دماه يسري حب المرضعة البسيطة، وابنتها التي جاءت بخلاصِه من الجوع ومن الغربة، وأخوه الذي لعب معه كابن سلطان ثم بعثا نبيين سواءً بسواء، كان موسى قد عثر على دماه!
وهو، كان قد عرف أخيرًا عن قريته، كان يزور الحطام كالمجنون، كلما أوجعه الحطام وأوجعه زيه العسكري الذي حاول به الجنرال نزع أمه عن أحلامه سوى أنه لم يفلح، خلع الزي خلعه وألقى به إلى مزبلة الحي، الحي الفاخر الذي بني من ركام القرى وترقيات الجنرالات كلما دمروا قرى الناس، على تل الأعداء/أهله!
يعود للحطام ويقلبه، شال هنا وعقد هناك، حذاء رجل ولعبة صبي، وحطام مدرسة قريبة، سبورة وطبشورة وعلم البلاد مرسوم على ورقة احترق منها أكثر أجزائها خضرة، لتصبح كل ألوان العلم إثر الانفجار والزمن سوداء.
يخرج، حاملًا معه كل هذا، في عقله وقلبه وفي يديه، يرتدي الزي المدني ويشعر أنه صاحب الأرض، ينظر للناس ويحلم، يحلم أن يحبوه كما يحبون أبناءهم.
#بغتة، يندلع الشوق، كاندلاع الحرائق من الألغام التي يضعها جنرال مثل أبيه بالتبني، أو بالحرب! يلقي عن عقله لفظة الأبوة، تمر امرأة خمسينية، بقايا جمالها لا تزال واضحًة، تشوبها مسحة حزن ولا تحمل شيئًا سوى شيئًا ثقيلًا في قلبها شعر به.
يمر جوارها حين يندلع الشوق فيها وفيه، يشم عطرًا كان يطارده في اليقظة والحلم، لا تخرج اللهجة كما يريدها، تخرج غليظة كلهجة الجنرال، ولا يفلح سوى أن يبتسم لها، ترد الابتسامة، تتذكر هي تمامًا، ذاكرتها تسعفها لأنها لم تنس أصلًا، كانت ترضعه بينما أخذت الأشياء تنفجر! تنظر إليه، يخرج كلمة يقصد بها التحية، تستبين في كلامه لهجة غير اللهجة، تغير مسارها، وهكذا يتقاطعان، أنا إياي يا أمي! يصرخ بلهجة الجنرال، الأم لا تبصر عيناها سوى ألغام اليوم الغائم، وطفلًا كانت ترضعه في سكينة، تحصنه بآيات الله وبعطرها، وتركض عكس السكة، بأقصى سرعة تملكها، يحاول أن يصل إليها، تختفي، حيث هو يشعر بأنه لا كما شعر موسى: الغريب عن الفرعون وامرأته، وأيضًا الغريب عن أمه.
يقرر البقاء حيث ولّت، بانتظار أن يتقاطعا مرة أخرى، حيث ضاع أول ضياع.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة