عاشقان.. محكومان بالإعدام!
عاشقان، محكومان بالإعدام | قصة قصيرة
حين غاص الجسد في الجسد، صرنا مثل شخصين في لوحة، أبديين، واللحظةٌ أبدية، وكل ما حولهما أبدي.
أراقب نظَرَها منذ أيام، والعيون مرايا الروح، فعلا، وعيناها، مرآتان كلاسيكيتان واسعتان، لا تخبئان شيئا بالمرة.
حين أُدَوّر المفتاح في قفل الباب وأفتحه، عائدًا وكيسُ ملابس العمليات في يدي، أبصرها تنظر إلي، دائمًا تكون، جالسة على الأريكة، نفس الالتفاتة كل يوم، تبتسم، ويقفز حاجباها كأن عودتي حدث غريب، لم أفهم هذا التعبير، وحين غالينا قبل ذلك في تفنيده، قالت أنها لا تفعل هذا، بل تفتح عينيها فقط، لأن الضوء الصادر من الشمس إثر فتح الباب يفاجئها ويزعج الصالة الغارقة في الأضواء الخافتة، ولكن حاجباها كانا يقفزان، وبعدها تجادلنا، ثم صورتُها، فيديو بكاميرا الموبايل، وجعلتها تشاهده، فزمت فمها علامةَ التركيز، وأعادت المشاهدة أكثر من مرة، وفي النهاية، ضيقت عينيها وألقت رأسها للوراء وانفجرت في ضحكة، وهي تضع كفًّا على جبينها، وتقول أثناء الضحك: والله لا أعرف! أنا غير مسؤولة عن حاجبيّ.
الآن أفتقد حاجبيها القافزين كأنهما يودان العناق.
تقترب نحوي، فأخبرها أن علي أن أستحم، تبتسم محرجة، وتمد يدها لتتناول الكيس، فأنهاها: سأضعه في الغسالة مباشرة بينما أستحم.
تقول: حسنًا. بنبرة مكسورة.
وحين أخرج من الحمام تكون قد حضرت الغداء، فننهمك في تناوله.
أدخل مباشرة للنوم مرهقا من طول اليوم وكثرة العمليات وازدحام المشفى، وتبقى هي تشاهد التلفاز أو تعبث بهاتفها، وربما انضمت إلي لكنها تركت مسافة بيني وبينها، أو أعطتني ظهرها وهي تعبث بالهاتف كيلا أرى تعابير وجهها.
أنا أعلم أن قلبها يؤلمها، وأنها لا تصمت هكذا أبدًا، وعيناها، عيناها أكثر ما يرخي عزمي، ويجعلني أنهار.
انضمت إلي وفي حوزتها كتاب، شعرها الذي كان معقوصا ها هي أسدلته، جلست صامتة وفتحت الكتاب وتركت شعرها يحجب عني وجهها وعينيها، وبدأت في القراءة، ظنتني نائمًا ولكني كنت كل مرة أسترق النظر، مضى وقت طويل جدًا وهي تقرأ في صفحة واحدة لم تقلبها، يداها مسدلتان إلى جوارها ولا نية لديها في قلب الصفحة، سحاب من التفكير فوق رأسها، ووجهها محتقن، أعرف كيف يحتقن وجهها، ثم وقعت دمعة من عينها، وفي الصمت بيننا، بدا أن للدمعة صوت وهي تهبط في الكتاب وترتطم به، وبدا أن لها حرارةً أخذت الغرفة كلها في جوها، ثم انهمر الدمع سخيًّا، ونهضت، وكانت كلُّ حيلتي، أن أمسك بيديها، يداها اللتان انتزعتهما عن يديّ، وخرجت.
أنا في الدوامة، لم ألحق بها لأراضيها كما يفعل الأزواج، ولم أستطع أن أنم، اضطجعت على ظهري، نظرت للسقف، واشتعل رأسي بالتفكير، يلاحقني شبح ضخم، شبح الوباء الذي اجتاحنا فجأة وبصورة كارثية، وخلف لنا مرضى ما زالوا معدودين لكننا نخشى فقدانهم، ورسائلَ كثيرة فلسفية واقتصادية وأخلاقية، ومادة ضخمة للكتابة والتأمل والرسم، وتلاحقني عيناها، وشبح حزنها المخيم على البيت، جاعلًا المكان مغمورًا بالظلال، كأن لم تشرق عليه شمس، ورغم أنني كنت الأكثر تعرضًا للخطر، كانت هي تشحب يومًا إثر يوم.
تستمر الأيام في التوالي، ساعات مكوثي في البيت تتقلص فأعود لأربع ساعات وأغادر، أو أغادر فور وصولي لحاجتهم لي، المشافي ممتلئة عن آخرها والأطباء يؤدون باختلاف تخصصاتهم ذات المهمة، وأنا كلما عدت إلى البيت وجدتني أقل مناعة، وقابلًا للانهيار، وهي تتوسلني بعينيها، ولا تفرق بين الحزن والغضب، فتخلط الأمرين وتمتنع عن الكلام وهي تغوص شيئا فشيئا في نوبة اكتئابية.
- رينيه ماغريت أبو السريالية. قالت حينما رأتني أقف عند اللوحة في المعرض.
- لا، سلفادور دالي أبوها. قلت
- أعلم، أبوها بالنسبة لي. وضحكت
- يبدوان كمحكومين بالإعدام
- لا، هما عاشقان، ولكنها لمسة ماغريت، لهذا الموضوع قصة طويلة
- أحب أن أسمعها
ومضت تتلو القصة.
وبعدها صمتنا، وعدتُ من جديد أتأمل اللوحة.
قالت لتكسر الصمت:
- لم أحسن رسم طية المنديل
لكنني كنت في نفس اللحظة قد قلت: فرصة سعيدة يا آنسة.
فابتسمت وهي محرجة
ورغم أن كثيرين جاؤوا من مختلف كليات الجامعة لمشاهدة معرض كلية الفنون، وكثيرين وقفوا عند لوحتها التي تحاكي لوحة ماغريت، إلا أنها، فور مغادرتي، ذابت في حشد الزوار كأنها واحدة منهم.
بعد ذلك بعام، اكتشفتُ أنها رسمت لوحاته الشبيهة كلها، صارت تحسن رسم طية المنديل وأنها تحبني!
تتداعى الأيام وتتداعى الدول، وتتغير أفكار الناس، والانترنت يحمل أخبار مرعبة وتارة مطمئنة، ينحسر عدد مرضانا في البدء لكنه يزيد في النهاية زيادة كارثية، تجعلني لا أرى البيت ليومين، وتجعلني أنسى أنني جراح، وأنخرط في مهام طبيب طوارئ.
فشلُ التنفس، وفاة المريض بعد صراع النّفَس، المرضى في الأسرة، شلل العمل الفجائي حين تنعدم القفازات ثم يعود الإمداد، فيفلت شخص ما زر التوقف من على جهاز تحكم ضخم ويعود المشفى للحياة، وبكاء المرافقين واستخدام الشرطة لفصلهم من ذويهم الراحلين، الشرطة التي لم تعد تبدو كشرطة لكنها تبدو كطاقم طبي على أعلى درجات الحيطة.
أجيء متأخرا فحظر التجوال لا يشمل الكادر الصحي، لا مقاهٍ للجلوس فيها والتفكير في البنت الرقيقة التي أحب، الحزينة التي تؤدي واجباتها لكنها غير قادرة على التأقلم مع الوضع، وهي لم تعد ترسم أو تشاهد التلفاز أو تدير النقاش في مجموعات الواتسب الخاصة بالفنانين عن أن ماغريت هو أبو السريالية لا دالي، منفعلةً وترسل ملاحظات صوتية علمية وتارة عاطفية عن أن الجميع يجب أن يتجاوز التسميات ويعترف لرينيه بالفضل. انخفضت طاقتها وصارت في معظم الأيام تمكث في غرفة النوم، تخرج وتدخل لماما، وتكمل عزلتها وتكثر القراءة، تنظر نحوي كلما عدت وتحاول أن تأخذ عني الكيس الذي أضع فيه ملابس العمل كأنني لم أنهاها بالأمس، وتحاول أن تعيدني لغرفة النوم ولكنني أصر على النوم في الصالة.
أرقد في الصالة ويجافيني النوم، أنظر للمكان حولي، كل شيء نظيف ومعقم، روائح المنظفات الخافتة، ورائحة البخور المهيمنة والتي تجعل البيت مألوفًا ودالًّا تحديدا على وجودها فيه، تغمرني، وتمر في خيالي وهي تضع البخور وتحوم في الشقة الصغيرة لتغمر كل ركن بالرائحة، لدرجة أنني أجدها بين ملابسي المعلقة في الخزانة، واقفة وهي تمرر البخور بين قطعة وقطعة، أبتسم لكني سرعان ما أتألم لأنني أستحضرها مثل ذكرى بينما هي في الغرفة بالداخل، أتأمل اللوحة على الجدار، والتي لطالما أمضينا وقتا طويلا قبل النوم نتناقش حولها، اسمها عاشقان، تقول لي، وأضحك وأقول لأغيظها: محكومان بالإعدام، رينيه هذا كان مهووسا بالمحكومين بالإعدام.
تنفعل وتشرح لي حياته ومأساة والدته وآراء النقاد الذين انقسموا لطوائف متعددة فقط كي ينقدوا اللوحة، أبتسم، وتحين التفاتة مني فأجدها واقفة على الباب الموارب تنظر إلي، ولعينيها ذات التوسل.
نحن راقدان جنبا لجنب، قلبي ينبض بشدة، وأنا أكسر ذلك الحظر الذي فرضته علينا، ألف ماذا لو تخطر في بالي وأخمدها، ماذا لو كنت مصابًا، لو أصبتها، كيف ستشفى، وهل ستحتمل مناعتها هجمة الفايروس القوية، يخطر وجهها في وجه كل مريض عالجته وكل مريض رحل، وأنظر أمامي فأجدها وقد جف دمعها قليلا ورضيت بعناق، قلت: لا قُبل، قَبل أن ينحسر الوباء، فبكت ولا أظنها موافِقة، بكت من الشوق ومن أنها ترى الأمور كلها كلوحة سريالية تراجيدية، وأنا قد غاص قلبي في صدري، لم أستطع ألا اشاركها في الأسى على الحال الذي نحن عليه.
وشاحان من خزانتها، أخذتهما، وضعتهما على وجهينا.
بعد كل هذه الغربة، حين غاص الجسد في الجسد، صرنا مثل الشخصين في لوحةِ ماغريت (أبو الفن السريالي): أبديين، محكومين بالإعدام، لكن عاشقين!
أبديينِ
واللحظةٌ أبدية
وكل ما حولنا أبدي.
إسراء رفعت
٣٠ مارس ٢٠٢٠
١٥:٥
أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذفوسرد ممتمع، وقصة مؤثرة، في قمة الروعة....مزيدًا من الإبداع.
ردحذف