ورقة بعنوان: الحق في حرية التعبير الأدبي والفني
في الثالث من أكتوبر ٢٠٢٢ استُضفت من مركز أم درمان الثقافي، بالتعاون مع معهد غوته، ضمن فعاليات معرض الملاذ للسياسات الثقافية، مقدمةً ورقة بحثية مختصرة عن حرية التعبير الأدبي والفني بالسودان، الحق فيه، وواقعه الراهن.
هنا نسخة مرفقة عن الورقة المتلوة.
مساء الخير، تحية طيبة.
شاكرة لانضمامي للإخوة الفنانين وأصحاب المشاريع الثقافية والفنية، ومرحبة بالحضور الكريم.
الحديث عن الحرية الأدبية والفنية حديث طويل ومهم، يبدأ من تعريف الحق، الحرية وليس انتهاء بالقوانين والأعراف الدولية بهذا الصدد وتطبيقها في الدول العربية والعاملة بنظام إسلامي.
يصادفنا الإشكال الأول في تعريف الحرية، فما هي الحرية الفنية والأدبية؟ وهل يمكن تعريفها سوى على أنها حرية نسبية؟ وهل نعني بحرية التعبير الأدبي والفني إطلاق هذه الحرية أم تقييدها بقوانين عامة؟ مدى عمومية هذا القوانين ومدى تناسبها والمجتمع الذي تطبق فيه.
وهل سوف تخدم الحرية الفنية والأدبية الفن والفكر والمجتمع أم ستعود بالضرر على معنى الفن والحرية في آن؟
تعطي المادة التاسعة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 لجميع الأفراد حق التمتع بحرية الرأي والتعبير الفني، وهذا يشمل -حسب نص الإعلان المترجم لخمس مئة لغة من بينها العربية-: حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود.
وهذا بعد توطئة وردت في المادة الثامنة عشر التي تقر أن لكل شخص حقه في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وإظهار هذا على الملأ.
في المادة الخامسة عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والذي وُقِّع عام 1966 وبدأ العمل به في يناير 1967. صادقت الدول المقرة والموقعة على أن من حق أي فرد:
أ. أن يشارك في الحياة الثقافية.
ب. أن يتمتع بفوائد التقدم العلمي وتطبيقاته.
ج. أن يفيد من حماية المصالح المعنوية والمادية الناجمة عن أي أثر فني أو علمي أو أدبي من صنعه.
مع مراعاة الدول الأطراف -بغية ضمان الممارسة الكاملة لهذا الحق- التدابير التي تتطلبها صيانة العلم والثقافة وإنماؤها وإشاعتها.
كما تتعهد الدول الأطراف باحترام الحرية التي لا غنى عنها للبحث العلمي والنشاط الإبداعي.
كما تقر الدول الأطراف في هذا العهد بالفوائد التي تجنى من تشجيع وإنماء الاتصال والتعاون الدوليين في ميداني العلم والثقافة.
ويعد السودان موقِّعًا على هذا العهد مع جملة مواثيق وعهود أخرى تشمل:
اتفاقية اليونسكو لحقوق التأليف والنشر 1952
اتفاقية اليونسكو لحماية الممتلكات الثقافية أثناء الصراعات المسلحة 1954 و1999
اتفاقية اليونسكو بشأن حظر الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية 1970
اتفاقية اليونسكو بشأن حماية التراث الثقافي والطبيعي 1972
الإعلان العالمي للتنوع الثقافي 2001
اتفاقية اليونسكو بشأن صون التراث الثقافي غير المادي 2003
اتفاقية اليونسكو لحماية وتعزيز كافة أشكال التعبير الثقافي 2005
واللافت أن صيغة المواد المتضمنة لحرية التعبير الفني والأدبي جاءت غير مشروطة ولا مقيدة في جميع هذه الاتفاقيات العالمية، بل وردت في كلمات محددة، غير قابلة للتأويل وليست حمالة أوجه، وخالية من جميع أشكال التمييز والقيود والشروط، ومنحازة للفرد وحماية حقه والإشارة إلى واجبه، ولكن هذه الاتفاقيات ما إن تتزحزح قليلًا من العام إلى الخاص، ومن الخارج إلى الداخل، داخل الدول، وتمر بأروقة السلطة والأمن، والمصنفات الأدبية والفنية، حتى تطالها يد التشذيب والقص والحذف والإدراج، وكلمات من قبيل: الأعراف العامة، والمساس بسيادة الدولة والأمن القومي، مع ملاحظة أن التعامل النصي والعملي في القوانين الوطنية السودانية لحماية حرية التعبير الفني والأدبي مع الفرد، والمنتج الأدبي والفني هو تعامل قاضٍ مع متهم، أو تعامل وصي مع فرد فاقد للأهلية ونازع للتمرد ولا يحسن تقدير الأمور، كما لو أن المبدع والمثقف والفنان هو متمرد يجب تقويضه، وشخص ساعٍ بنشر عمله الفكري أو الفني إلى إزعاج السلطة وإقلاق الهدوء الشعبي.
في كتابه: ما يتبقى كل ليلة من الليل. يقول الروائي بركة ساكن والعهدة عليه:
" في العام 2011 حظرت السلطات سبعة عشر كتابا لدار عزة السودانية كان يفترض أن تكون ضمن معرض الخرطوم الدولي للكتاب منها مراجعات إسلامية للدكتور حيدر إبراهيم، وحظرت جميع كتب محمود محمد طه، بجانب عنوانين أجنبيين، وحظرت كل الكتب الشيعية".
يضيف: "شكل الأمر شبه إجماع ثقافي بأن قانون المصنفات المذكور قانون لا أهمية له، وأن الأصل هو حرية الكتابة والنشر والتعبير، وأن على القانون الجنائي السوداني أن يكتفي بتولي الفصل في القضايا التي تنجم عن سوء استخدام المبدعين للحرية المعطاة لهم، أي في حالة أن يسيء العمل الفني لشخص ما –حقيقي أو اعتباري- وأن يستعين المعتدى عليه بسلطة القانون للفصل في القضية التي فيها المتهم بريء ما لم تثبت إدانته، ولا يتم ذلك بأسلوب محاكم التفتيش وتخيل الإساءات كما هو الحال".
في دراسة مقارنة أعدت حول الحماية القانونية للحقوق الفنية والأدبية في السودان، أعدها د.مصطفى الناير ونشرت في مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية في فبراير 2007، يقول الباحث في الفصل الأول بعنوان: مفهوم الحق وحمايته القانونية.
"لم أقف على معنى الحق اصطلاحا في القانون السوداني، ولكن بالضرورة أن يكون معناه متفقا مع ما ذهب إليه علماء الفقه وأصوله، وذلك عملًا بمقتضى أحكام قانون المعاملات المدنية السوداني لسنة 1984 حيث جاء في نص المادة 3: تسترشد المحاكم في تطبيق أحكام القانون والعبارات الواردة فيه، وكذلك في حالات غياب النص بالمبادئ الشرعية، وتتبع القواعد المنصوص عليها في قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983".
وفي هذه الحالة كما هو واضح للحضور أن القانون السوداني لم يصطلح على معنى للحق إلا بما يذهب إليه تأويل القضاة استنباطًا من الأحكام الفقهية مما يجعل عسيرًا على أصحاب الأعمال الفنية والفكرية والأدبية معرفة شروط القانون السوداني في حماية حقوقهم، بما أن الأساس في الأصل غير واضح وقابل للتأويل.
ولا ينتهي الواسع والفضفاض من العبارات هنا، مع غياب النص القرآني والنبوي الصريح في مواضيع حرية التعبير الفني والأدبي، والذي يستند إليه القانون السوداني في التشريع، فكون القانون السوداني يعتمد على تأويل ومقاربة النصوص والمواقف الدينية والتراثية لاستنباط قوانين تحمي حرية التعبير الفكري والأدبي والفني، فهذا بالضرورة يجعل الأمر غير واضح، ومطية لسوء التصرف والاستخدام وللفساد والتمييز بين أعمال وأعمال.
وهذا المتوقع قد حدث، فنصوص القوانين المفترض بها حماية الحرية الفنية والأدبية، إن جاز لنا استخدام مصطلح "حرية" مع كل هذا التعقيد، هي نصوص واسعة جدا بما يكفي لجمع ضدين في عبارة، تكفل لأفراد حق الحماية وتسقطه عن غيرهم في بلد متعدد الثقافات والأديان والأعراق.
اقتباسا من ذات الدراسة:
"تجدر الإشارة في هذا المقام أن أعمال الأدب والفن التي يقوم بها أي مؤلف من المؤلفين الوارد ذكرهم في القانون السوداني لا تكتسب أهمية في نظر الفقه الإسلامي، إذا جاءت مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية فبناء على ذلك يصبح الحق الأدبي والفني غير مشروع فيترتب على ذلك بطلان الدعوى.
فهذا ما أكده المشرع في قانون المصنفات الأدبية والفنية لسنة 2001 من خلال أحكام المادة 15 التي تشترط عدم الإخلال بالقيم الدينية والآداب العامة عند تداول ونشر وطبع أي من المصنفات الأدبية والفنية". انتهى.
فما هي الآداب العامة؟
وما هي القيم الدينية؟ وهل هي منوطة بالدين الإسلامي وحده؟ وبأي مذهب؟ وعلى رأي أي فقيه؟ هل ذلك الذي يرى الموسيقا، والرسم والتصوير، والظهور النسائي، ودرجات الحجاب، حلالا أم ذلك الذي يراها حراما؟
وما هي الأعراف؟
وهل هي مضبوطة على مقياس دين معين أو فكر معين أو اعتقاد معين؟ أم أنها عامة؟ وهل هي عادلة بما يكفي للإحاطة بثقافات وأفكار مجتمع متعدد كالمجتمع السوداني؟
وكيف يوقع السودان ميثاقا عاما ثم يبدأ بالطعن فيه باستثناءات ألغت معنى عمومية القاعدة؟!
مما يعيدنا للنقطة التي سبق وأثرناها بشأن حرية الرأي والتعبير الفني والأدبي:
تعامل السلطة بقوانينها وشروطها مع حرية التعبير الفني والأدبي ومع شخص المبدع، وهذا التوتر والقلق الذي تبديه لدى كل جديد يصدر فضلًا عما يجب أن تقدمه من دعم معنوي ومادي، وتساهيل لأصحاب الفن والفكر سواءً كانت تساهيل إجرائية لتكوين اللجان والنقابات والجمعيات الثقافية، أو مادية من تخصيص الميزانيات ودعم مشاريع الثقافة والفنون العامة والخاصة.
خاصة ونحن نتحدث في ظروف يمر فيها السودان بوضع معقد جدًا، فحتى مع انتظار المثقفين وأصحاب الفن والفكر لقانون يسمح لهم بحرية التعبير دون قيد أو شرط، جاءت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية مخيبة للآمال، فقد جاء في نص المادة 57. الفقرة 1:
لكل مواطن حق لا يقيد في حرية التعبير وتلقي ونشر المعلومات والمطبوعات والوصول إلى الصحافة دون المساس بالنظام والسلامة، والأخلاق العامة وفقًا لما يحدده القانون.
فما زالت الكلمة الفضفاضة هي المفضلة لدى السلطة في وضع النصوص التي يراد بها حماية حرية التعبير الفني والأدبي، دون توضيح ماهية الأخلاق العامة.
كما أتمنى من السادة المشاركين عدم إغفال تلقي المجتمع لهذا المنتج الأدبي أو الفني الصادر من المبدعين والمثقفين وأصحاب الفكر، ونظرتهم إليهم وإلى منتجاتهم، وهل هذا جزء من القضية التي نتحدث عنها.
_______
ص١٥١. ما يتبقى كل ليلة من الليل. عبد العزيز بركة ساكن
تعليقات
إرسال تعليق