مراجعة رواية زمن الخيول البيضاء

مراجعة رواية زمن الخيول البيضاء.

فازت بجائزة تكوين الشهرية لمراجعات الكتب.


في هذه الملحمة بطلان: اللغةُ والقضية.

حارة متقطعة النفس، اللغة، تسير كالخيول عدوًا مشحونة بمظلمتها، هذه القصة التي لا يجهلها أحد، ويتجاهلها الكثيرون، القضية الفلسطينية.

تأتي الرواية في خمسمئة صفحة، ضمن مجموعة اختار لها نصر الله اسم: الملهاة الفلسطينية. كأن (لها) فعل ماضٍ له معنى وحيد في المعجم: انشغل.

تشغلك الملهاة منذ أن تبدأ بقصص أشخاصها ومصائرهم، فتغدو مترقبا وتقرأ على حذر، تقلّب الصفحات بهدوء خشية أن ينفجر لغم خلف الصفحة، أو خشية أن تقلق نوم (الحمامة) الوادع، قبل أن تعرف إليها المآسي طريقا.

أنت تعرف القصة، فمن لا يعرف مظلمة الفلسطينين؟! ولكنها هنا مبنية تفصيلة فوق تفصيلة، يأخذك نصر الله من يدك لتتعرف بالقرية الهادئة (الهادية) وهي قرية متخيلة صنعها ليقول أن كل القرى في فلسطين هي الهادية، تلتقي بعائلة الحاج محمود، وتعرف أولاده، وحياته، وماله وزراعته، بيته وبرج حمامه، وتعرف كيف يتكون الرجال الذين يقودون الثورات لاحقا، من مزارع عربي يكرم ضيفه ويتفقد زيتونه ويختار من بين بنات البلد حبيبة يتزوجها، ويلتقي بالرجال في المضافة ليناقش فوق الحصائر أخبار العالم، ويستشار في مشاكل تذروها بعد قليل الرياح لتصبح(قفشات) يتناقلها الناس في القرى لتصبح تاريخهم.

صعودا يتحول المزارعون إلى مناضلين لحماية الأرض، يكرون ويفرون، بعد كل معركة يتبين لهم كم كانوا طيبين وبسطاء، ويعقدون العزم على ألا ينخدعوا من جديد، ثم بعد أن يملكوا أسباب الدهاء لخوض المعارك مع عدو يتفنن في الخساسة، يقترح الهدنة وينقضها، تهزمهم الآلة، وعمالة الجار وابن البلد والدير، وقلة السلاح، وموت الرجال والخيول والمرارة غير المسبوقة، مرارة أكبر من حِمل البشر، صنعا البشر.

يبدأ نصر الله رواياته بالريح، كأنه يريد صنع أسطورة، حكاية تحدث على الحقيقة لكن الريح إذ تحملها هنا وهناك تحمل معها قصصا صغيرة/كبيرة، وشخصيات بسيطة/عظيمة، وتفصيلات دقيقة مثل زهرة نمت في قبر خالد الحاج محمود، لكنه أخلف موعده. ومع ذلك نمت منتظرة دفنه جوارها، مثل إيقاع يضربه حمدان منذرًا، أو فرِحا، مثل قصة أم الفار، تجعلك تارة تضحك وتارة تدمع.

كانت القرية وادعة تشغلها حكاياتها، ترقب المواسم والخوف من انحباس المطر، وتزغرد نساؤها في البيوت كلما كسر ولد صحنا فعرفوا أنه يحب.

كان رجالها متعلقين بخيولهم، هذه الكائنات التي هي أكبر قدرا من دواب تركب، وليست أقل شأنا من نساء محبوبات مرعيات، أخلاقهم فروسيتهم ومعاملتهم لخيولهم، يتوله الرجل منهم بحصانه حتى يكاد يفديه، يسميه ويحنو عليه كابن، ليرد له الخيل جميله في معاركه أو جاهاته.

الحصان يشعر ويتواصل ويرفض ويوافق ويخيب ظنه، وتغتصب أرضه ولكنه لا يهجر، يبقى وحيدا لأن العدو لا يعرف أنه إنسان لا أقل، فيغنمه مثلما يغنم الجمادات.

"لماذا تركت الحصان وحيدا؟!" يمر ببالك شعر درويش وأنت تقرأ.

ثم يأتي باب البشر، وهل الحرب إلا فكرة بشرية؟

يقول نصر الله على لسان بطله: عمر الرجا


ل أطول من عمر الدول.

يقاتل الرجال المستعمرة، واستعلاء الضباط الإنجليز والصهاينة، وفكرة اغتصاب الأرض العبثية التي فاقت كل منطق، ويقاتلون مفاجأتهم في رجال الدول المتواطئين، يموتون واقفين وعلى ظهور الخيل، ويهجر أهلهم وهم مطلوبون بالاسم، يدوخون اليهود، الذين ما إن يقتلونهم حتى يتنامى قلقهم، خوفا من أولادهم، يعمر الرجال بعد موتهم، في القصة، وفي ذاكرة الأجيال، وفي اللغة، وتغدو الأسطورة حقيقة مرة أخرى، بعد أن راقت فيها دماء.

لقد بقيت الحكاية أطول مما ستبقى الدولة، تلهي أهلها وتقلق التاريخ مهما أغمض عينيه.

تعليقات

المشاركات الشائعة