خطرات في شهرية الحرب الثامنة




 حفلة الموت في البلاد صارت مكرورة ومملة، الموت نفسه كثير لدرجة الشبع، اثنا عشر (ألف) سودانيٍّ قضوا منذ بدء حرب ١٥ أبريل، اثنا عشر ألف حزن معدود على الأقل، عدد لا تستطيع تخيله وتكلفة باهظة جدا، لم نحسب شهداء ثورة ديسمبر أو ما قبلها.


الموت كثير حتى أنني قلت لنفسي: أحسد العربي القديم على معنى الموت في ذهنه والذي أقرؤه في الشعر والأخبار، معنى مُهاب كسيف صقيل، فهو جائزة الشجاع في معركة أبطالها قتلاها، يتهيأ له الفارس ويرحب به بغية للثأر أو السيادة.

وهو منوط بعقبان تطير وسيوف تصل وخيول تصهل، له صوت الرعب وصوت الطارئ، لا صوت الاعتيادي، ولا رائحته، وأحيانا هو في معنى خادم لقائد قوي موثوق به عند شعبه، يطوعه لقتل المحتل واستعادة الأرض: "ويستكبرون الدهر والدهر دونه**ويستعظمون الموت والموت خادمه".

وهو في الصورة الذهنية على أسوأ الظروف نسر جائع ضخم، تقول العرب في أمثالها: "...لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم"، يعني ذهب شخص في ستين داهية، وأم قشعم يعني الستين داهية هذه، ويعني الموت أو ما ينفي اللقاء من جديد بالشخص الذي هم مستثقلوه كل هذا، أما القشعم نفسه فمن أسماء النسر: طائر الجثث وحصاد المعارك.


ثم فكرت لو رأى العربي القديم هذا اللعب بالموت على أيامنا على الفاضية والمليانة، لو رأى الجثث الملقاة كالتمائم كما قال المتنبي، خصوصا في بلادنا السودان، لضحك من وفرته أكثر من أي بضاعة أخرى، "كالخس في السوق كدسه البائعون". على رأي العظيم مريد البرغوثي، ولتعجب لقلة ثمنه مع كثرة أوصافه: مات، وقُتل، وفطس، وقضى، وقتيل وشهيد ومعنا ومعهم، وما عارفنو زاتو تبع منو، وأضرار جانبية، وفي الجنة وفي جهنم...إلخ.


ولكنني ارتددت من جديد إلى التفكير مستنكرة: العربي؟! لا شك أنني أمزح، العربي نفسه عراب حرب البسوس العبثية؟ التي جننت المهلهل وحرمتنا من شعر كثير عذب كانت ستنظمه رأسٌ رائقة تدور أربعا وعشرين ساعة بخمرها؟ والحرب التي ضيعت الملك الضليل، والتي قتلت خيرة شباب بكرٍ وتغلب وأوسمهم، أمثال قصي خولي وسامر المصري -هذه أسماء الممثلين طبعا-.

وتذكرت اختلافي مع عزيز ممن تستطيع مكالمته في أمور كهذه، عن جدوى حرب البسوس، أهي حرب حماقة أم حرب أنفة وعزة نفس ورفض للإمرة؟ فلم أجد شيئا يستقر عليه رأيي أكثر من كون إعلان حفلة للموت -كالحرب- فكرة شريرة، لكنها تلزم المرء أحيانا.


غير أن المرء هنا يجب أن يكون رجلا عاقلا قويا عزيزا، أو حكيما مثل سيف الدولة الحمداني، أو مثل الحارث بن عباد يرسل ابنه لحتفه طمعا في أن يكون آخر الموتى.


مررتُ نظري على ثقافات كثيرة شرقية وغربية، فإذ كلها دون استثناء نالت ما نالته من الحرب ورائحة الدم، كنت طالعت مؤخرا كتاب مذكرات آن فرانك، ورواية أنتوني دوير عن الاحتلال النازي، وكتابات في جنون أمريكا على اليابان في هيروشيما وناغازاكي..


ثم حط رحل تفكيري عند تعريف جيد لإدمان الحرب عند البشر على طول الزمان: أنها الثمن الذي تدفعه الشعوب، إذا انتاب السلطان شك في سلطته..


ما أقلقني على الفور، فمتى يتأكد رجلان أحمقان يخوضان الحرب عن عبث وتبييت نية، لا أحدهما سيف الدولة ولا الآخر دمستق الروم لنطمئن، بل ولا حتى عاقلان، جمعا شكا في السلطة وحمقا في الإدارة والتنفيذ، وإهدارا لموارد ضخمة وراء فكرة قضى عرابها الأول، وتضييعا لوقت الناس، متى يتأكدان من أنهما سلطانان كفاية ليوقفا هذه الحرب الخاسرة؟! 


فجأة ظهرت البسوس في غرفتي، ففهمت الرمز، تتمشى وتبتسم بمكر كاشفة عن أسنانها اللؤلؤية كما فعلت وقت أسرع جساس على فرسه بعد سماع مظلمتها، تأخذ في كفيها رداءها بهدوء فقد كان لها ما أرادت، وتقفل راجعة..


رنين أساورها لا صوت الرَّجوج، هو ما أذَّن ببدء الحرب..

والملل، وحده الملل واللا جدوى هما من أنهيا حربها..

لا ما أنفقت العرب من رجال!


خطرات ليلة ذكرى حرب ١٥ أبريل، الشهرية، الثامنة!


تعليقات

المشاركات الشائعة